تقرير خاص – تدمر
جاءت زيارة وفد من هيئة الأعمال الخيرية الإماراتية إلى مدينة تدمر في ريف حمص الشرقي لتسلّط الضوء على منطقة لطالما كانت ضحية الإهمال، ثم مسرحًا للدمار الذي خلّفته الحرب، وصولًا إلى تحوّلها شبه التام إلى مدينة منسية. لكن المبادرة الإماراتية هذه تحمل إشارات متعددة: إنسانية أولًا، تنموية ثانيًا، وسياسية – وإن بشكل غير مباشر – ثالثًا.
الصحة والمياه أولاً: الإنقاذ من القاع
أولى محطات الوفد كانت مشفى تدمر الوطني، وهو المنشأة الصحية الأساسية في المدينة، والتي تعاني منذ سنوات من ضعف في الكوادر والتجهيزات. وبحسب مصادر ميدانية، ناقش الوفد إمكانية إصلاح بنك الدم المتوقف، وتحويله إلى مدرسة للتمريض، مما يُعد تحوّلاً مهمًا نحو بناء كوادر محلية تستجيب للاحتياجات المتزايدة في ريف حمص الشرقي.
كما تفقد الوفد الإماراتي آبار المياه في منطقة "العِمي"، وهي آبار توقفت منذ سنوات عن الضخ، مما أدّى إلى أزمة مياه خانقة في تدمر ومحيطها. دراسة إمكانية إعادة تشغيل هذه الآبار تمثّل خطوة حاسمة في إنقاذ آلاف السكان من شحّ مزمن، وخلق بيئة قابلة للاستقرار والعودة التدريجية للسكان.
تدمر: مدينة ذات بعد حضاري عالمي... بحاجة لإحياء
مدينة تدمر ليست مجرد مدينة صحراوية مهمّشة؛ إنها واحدة من أعرق الحواضر القديمة في العالم، وموطن آثار عالمية تضعها في قائمة التراث الإنساني لليونسكو. الدمار الذي ألحقه تنظيم "داعش" بمعبد بل وبمسرح تدمر الشهير، ثم الإهمال بعد التحرير، جعل المدينة تخسر موقعها السياحي والاقتصادي والاستراتيجي معًا.
لكن اليوم، ومع المبادرات الإنسانية الجديدة، يمكن للإمارات أن تتبنى مشروعًا طموحًا لإحياء المدينة القديمة، بالتعاون مع اليونسكو ومنظمات الحفاظ على التراث، يشمل:
- ترميم البنية التحتية السياحية (طرق، خدمات، مواقف، أمن)
- دعم إنشاء مركز دولي للتدريب على صيانة الآثار
- ربط الموقع الأثري بشبكة سياحية تشمل تدمر، القريتين، وجبال القلمون الشرقي
الفرص التنموية: من "هامش القطر" إلى بوابة استقرار
تتمتع تدمر ومحيطها بعدد من الميزات التنموية التي تجعلها منطقة واعدة في حال توفر الحد الأدنى من الاستقرار والخدمات:
- الزراعة الصحراوية: بالإمكان إنشاء مشاريع ري حديثة باستخدام المياه المعاد تدويرها أو المستخرجة من الآبار، بالتعاون مع جهات إماراتية رائدة في الزراعة الصحراوية (كمزارع العين ومبادرات الابتكار الزراعي في أبوظبي).
- الطاقة الشمسية: يمكن استثمار السطوع الشمسي الهائل في البادية السورية لتأسيس حقول طاقة متجددة، توفر الكهرباء لتدمر والمناطق المحيطة.
- إعادة توطين السكان: عبر مشاريع إسكان منخفضة التكلفة، وخدمات تعليمية ومهنية موجهة للشرائح التي هجرت المنطقة بسبب الحرب.
البعد السياسي: دعم "الهامش" كأداة استقرار بعيد عن التجاذبات
الإمارات ليست جديدة على العمل في "الهامش السوري" بعيدًا عن العواصم والمراكز. لكنها تدرك أن الاستثمار في المناطق الطرفية – التي تمثل بؤر توتر مستقبلي إن تُركت على حالها – هو الضمان الوحيد لاستقرار طويل الأمد في سوريا.
وفي هذا السياق، فإن تدمر تقدّم نموذجًا مثاليًا لدور إماراتي:
- غير متورط أمنيًا
- مقبول شعبيًا
- قابل للقياس والنجاح
كما أن هذا الحضور يُعيد صياغة العلاقة الإماراتية السورية من مجرّد علاقة دبلوماسية إلى شراكة مجتمعية وإنمائية.
:تدمر بحاجة لأكثر من الدعم... تحتاج رؤية:
زيارة الوفد الإماراتي خطوة أولى محمودة، لكن تدمر لا تحتاج فقط إلى مساعدات إنسانية مؤقتة، بل إلى رؤية تنموية متكاملة، تُعيدها إلى الخريطة السياحية، وتحوّلها من مدينة منكوبة إلى رمز لاستعادة الحياة في قلب الصحراء السورية.
إن التحديات كبيرة، لكن الفرص أكبر. وإذا ما تم استثمارها بحكمة، فقد تشكل تدمر بوابة الإمارات إلى دور إنساني واستثماري مميز في قلب سوريا المستقبل.