في ظل لحظة إقليمية تتصاعد فيها التعقيدات الأمنية والسياسية في الشمال السوري، استقبل وزير الدفاع التركي يشار غولر، يوم الاثنين الماضي، السفير الأميركي لدى أنقرة والمبعوث الخاص إلى سوريا توماس برّاك، في لقاء عُقد بمقر وزارة الدفاع التركية في أنقرة. ورغم أن البيان الرسمي اقتصر على نشر صورة اللقاء دون تفاصيل، إلا أن برّاك كشف لاحقًا أن المباحثات تناولت قضايا "الأمن والاستقرار الإقليمي"، مشددًا على وصف العلاقة بين واشنطن وأنقرة بأنها "تحالف وشراكة".
لقاء في سياق تصعيد متبادل
يأتي هذا اللقاء في وقتٍ تواصل فيه تركيا تنفيذ مبادرة "تركيا خالية من الإرهاب" التي أطلقتها في مايو/أيار الماضي، بهدف تفكيك البنية التنظيمية لحزب العمال الكردستاني (PKK)، والذي تعتبره أنقرة امتدادًا لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) داخل الأراضي السورية. في المقابل، تتابع الولايات المتحدة مشروعًا تدريجيًا مع دمشق لدمج "قسد" ضمن مؤسسات الدولة السورية، في مسار أثار تساؤلات حقيقية عن مستقبل الكيانات المسلحة والإدارية في شمال شرقي سوريا.
اتفاق مجمّد بين دمشق و"قسد"
تعود جذور هذه التحركات إلى 10 مارس/آذار الماضي، حين أعلنت الرئاسة السورية التوصّل إلى اتفاق مبدئي مع "قسد"، يتضمن دمج هياكلها العسكرية والإدارية ضمن مؤسسات الدولة، كخطوة أولى نحو حل طويل الأمد لمعضلة الحكم الذاتي والانفصال الفعلي في شمال شرقي سوريا.
لكن رغم أهمية الاتفاق، دخلت عملية التنفيذ في حالة جمود امتدت لعدة أشهر، بسبب تمسك "قسد" بصيغة "اللامركزية الواسعة"، والتي تمنحها صلاحيات إدارية وعسكرية مستقلة، وهو ما رفضته دمشق بشدة، مؤكدة أن أي صيغة تمس بوحدة الدولة والجيش تُعدّ خطاً أحمر.
اجتماع دمشق: تحريك الجمود بلا نتائج حاسمة
في محاولة لكسر هذا الجمود، عُقد في 9 يوليو/تموز الماضي اجتماع رفيع المستوى في دمشق، ضم الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد "قسد" مظلوم عبدي، والمبعوث الأميركي توماس برّاك، إلى جانب ممثل عن الحكومة الفرنسية. وعلى الرغم من الأجواء التصالحية التي رافقت الاجتماع، إلا أنه لم يفضِ إلى اختراق سياسي واضح، إذ ظلت الخلافات الجوهرية قائمة، لاسيما حول مستقبل قوات "قسد"، وتمثيلها السياسي، ومصير الإدارات الذاتية في محافظات الرقة والحسكة ودير الزور.
ضغوط إقليمية ودولية على "قسد" للالتزام بالاتفاق
ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة باتت أمام اختبار جدّي لفرض الانضباط على "قسد"، التي تعتمد بشكل كبير على الغطاء السياسي والعسكري الأميركي، في وقت تتزايد فيه الضغوط التركية والروسية والإيرانية لإعادة بسط سيطرة الدولة السورية على كامل أراضيها.
ويؤكد مسؤولون في دمشق أن التزام "قسد" بتنفيذ الاتفاق يمثل مخرجًا سياسيًا حقيقيًا ينهي سنوات من التوتر والازدواجية في مؤسسات الدولة، ويعيد الاعتبار لمفهوم السيادة الوطنية، خصوصًا أن "قسد" لم تعد تملك خيار الانفصال الواقعي وسط التراجع الأميركي في المنطقة.
رسائل تركية واضحة: لا لتقسيم سوريا
من جهتها، صعّدت تركيا من لهجتها مؤخرًا، إذ قال وزير الخارجية هاكان فيدان إن أي مشروع يهدد وحدة سوريا "سيُعتبر تهديدًا مباشرًا للأمن القومي التركي"، مشيرًا إلى أن أنقرة تدعم خطوات الدولة السورية لإعادة فرض سلطتها على كامل الأراضي السورية، بما فيها مناطق الإدارة الذاتية.
تقاطع المصالح: شراكة معقدة بين أنقرة وواشنطن
الاجتماع بين غولر وبرّاك يعكس تقاطعًا دقيقًا في المصالح بين تركيا والولايات المتحدة، فبينما تختلف رؤيتهما حول "قسد"، إلا أن كليهما يرفض أي سيناريو لانفصال فعلي أو تقسيم للأراضي السورية. ويبدو أن واشنطن تراهن على دمج "قسد" في الدولة كحل وسط يُرضي أنقرة ويمنع الانهيار الكامل لمشروعها شرق الفرات.
الفرصة الأخيرة لـ"قسد"
في ضوء المعطيات الراهنة، يُمكن اعتبار أن الاتفاق بين دمشق و"قسد" يمثل فرصة سياسية نادرة لحل معضلة الشمال السوري دون تدخل عسكري خارجي. لكن نجاحه يتطلب أولاً التزامًا صريحًا من "قسد" بتنفيذ بنود الاتفاق، وتخلّيها عن الرهانات الدولية التي لم تُفضِ حتى الآن إلا إلى مزيد من العزلة والجمود السياسي.
وفي ظل التحولات الإقليمية السريعة، فإن المماطلة أو التراجع عن الاتفاق قد يُفقد "قسد" الغطاء الدولي تدريجيًا، ويعرضها لضغوط مركّبة من دمشق وأنقرة وموسكو، ما يجعل تنفيذ الاتفاق خيارًا استراتيجيًا لا تكتيكيًا لمستقبل مكوّن طالما لعب دورًا محوريًا في المعادلة السورية.