الجولان عظم سمك

خاص السوري اليوم
خاص السوري اليوم

أتكئ على هذا العنوان: "الجولان عظم سمك"، الذي قاله أحد أبناء الجولان في فيلم وثّق جزءًا من المأساة، والتي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، ليعرف العالم أجمع أنّ الجولان بالفعل "عظم سمك" ففي الخامس من حزيران عام 1967، انغرس جرح عميق في الجسد السوري والعربي، اسمه الجولان المحتل، خمسة عقود ونيف مضت، ولا يزال الا.حتلا.ل الإ.سرا..ئيلي جاثماً على أرض عربية خالصة، يعرفها التاريخ والجغرافيا والإنسان بأنها أرض سورية، لا يغير هويتها قرار محتل، ولا تمحو ذاكرتها ممارسات عدوانية، ولا تطمس حقيقتها تظليل الواقع المفروض بالقوة والخذلان

إنّ كل القرارات الدولية، من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكدت بصريح العبارة، و دون مواربة، أن الجولان "أرض محتلة"، وأن على إسرائيل الانسحاب منه فوراً ودون شروط.

إنّ "القرار 242"، و"القرار 497"، وسواها من القرارات نصّت بوضوح على أن احتلال الجولان غير شرعي، وكل ما نتج عنه باطل قانوناً وأخلاقاً، لكن رغم ذلك، يصرّ الاحتلال على انتهاك القانون الدولي، مستنداً إلى لغة العالم اليوم، وهي لغة القوّة والسلاح، والحروب العبثية، والدماء التي تسفك لتغيير معالم الأرض وديمغرافية الإنسان، وتواطؤ إقليمي مرير يستند إلى لغة المصالح، ولغة الوهن والخوف.

إن الحقوق لا تسقط بالتقادم، والجولان ليس فقط قطعة أرض أو معركة خاسرة في حرب، بل هو قلب نابض من هوية سورية، موقع استراتيجي يتحكم بموازين المياه والطبيعة والمناخ، ويشرف على بحيرة طبريا، مفترق طرق بين فلسطين المحتلة وسوريا ولبنان، جبل الشيخ، ومجرى اليرموك، والتلال الخضراء، كلها ليست مجرد تضاريس، بل شواهد على أرض غنيّة بثرواتها، شامخة بجبالها، طاردة لكل محتل.

ومع كل ذلك، لم يكن الاحتلال الإ..سرا..ئيلي للجولان مجرد احتلا.ل جغرافي، بل تهجير قسري واجتثاث سكاني منظم. آلاف العائلات الجولانية اقتُلعت من بيوتها وقراها، وسمع أبناؤها يومها كلمات مخدّرة، قالت لي أمّي: قالوا لنا "أيام وتعودون"، لكن الأيام صارت عقوداً، والشتات صار واقعاً. في دمشق، التصقت بهم صفة "النازح"، وصارت هذه الكلمة سُبة يتوارثها الأبناء، تحت ظل نظامٍ استبدادي جعل من مصيبتهم تهمة، ومن وجعهم مدخلاً للاتهام والنبذ، لا للتضامن والتعويض.

في منافيهم الداخلية والخارجية، تفتّت أبناء الجولان، لا كيان سياسي موحد يجمعهم، ولا خطاب جامع يوحّدهم، فأكثر ما يعانيه الجولانيون اليوم ليس فقط الاحتلال، بل فقدان الوجهة، وغياب البوصلة، وانعدام الصوت الذي يحمل قضيتهم كما يجب أن تُحمل، ويجب أن تكون.

ومما لا يمكن إسقاطه من ذاكرة الجولان والقنيطرة، وأهلها، حين أعلن "حافظ الأسد" سقوط القنيطرة قبل أن تسقط فعلياً، ما أفسح المجال لقوات الاحتلال للتقدم بلا مقاومة حقيقية، وصولاً لما يسمى" جيب سعسع" حدّثني أحدُ الطاعنين بالسن من أبناء الجولان: تُركت الأرتال والدبابات كما هي، وانسحبوا، يتحدث عن القطعات العسكرية التي كانت بإمرة "حافظ الأسد" وكيف هدّموا المنازل بالقنيطرة، تلك الحادثة لا تزال وصمة في تاريخ الصراع، ودليلاً على أن ثمناً ما دُفع لبقاء الأسد في الحكم، ولو على حساب الأرض والسيادة والكرامة الوطنية.

واليوم، لا يزال الاحتلال الإ.سرا..ئيلي يمارس سياسته العدوانية، ليس فقط بوجوده العسكري، بل بنهجه المستفز التوسعي الذي يزداد شراسة، فبعد سقوط النظام البائد دخل المنطقة العازلة، خرّب ما تبقى من مباني القنيطرة المهدمة، شرع بتهديم مشفى القنيطرة التاريخي، ودمر مخفر الشرطة القديم، بل وأقام مهبطاً للمروحيات في تحدٍ سافر للقانون الدولي، مستغلاً ضعف سوريا في خضم سنوات الثورة، ومحاولات الحكومة الجديدة النهوض مجدداً.

في ذكرى احتلال الجولان، نقولها بوضوح لا يقبل التأويل:

الجولان سوري، وسيبقى سورياً، والاحتلال زائل، ولو طال أمده،

وما ضاع حق وراءه مطالب.

وإن كانت الجغرافيا تُسرق، فالتاريخ لا يُنسى، وإن كانت الأرض تحت الاحتلال، فالهوية لا تُؤسر، وسيظل الجولان في القلب، وفي الوجدان، حتى يعود لأهله، تحت راية الحق، وضمن الشرعية الدولية التي أكدت أن إسرائيل قوة احتلال، وعليها أن ترحل.

إنّ الخامس من حزيران هو نداء تذكير، لا نكسة ضعف، هو يوم للتجديد، لا للندب، ولن نكتفي فيه بالذكرى، بل بالعمل على ألاّ تُنسى الأرض، وألاّ يُهمل شعبها، وألاّ تُمحى قضيتهم.