مستقبل النمو الاقتصادي في سوريا بعد إلغاء قانون قيصر: من العزل القسري إلى الانفتاح المنظم

رويترز
رويترز

يمثّل قرار مجلس النواب الأميركي القاضي بإلغاء قانون قيصر ضمن مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2026 نقطة تحوّل جوهرية في مسار الاقتصاد السوري، حتى وإن لم يصبح الإلغاء نافذاً رسمياً بعد. فالتصويت بأغلبية واسعة (312 مقابل 112) يعكس تغيراً حقيقياً في المزاج السياسي داخل واشنطن، ويشير إلى انتقال تدريجي من سياسة “العقوبات القصوى” إلى مقاربة جديدة تتعامل مع سوريا باعتبارها شريكاً محتملاً في استقرار الإقليم وإعادة توازناته. ورغم أن المسار الدستوري للإلغاء لم يكتمل—إذ ينتظر المشروع تصويت مجلس الشيوخ وتوقيع الرئيس دونالد ترامب—إلا أن المؤشرات كافة تدل على أن القانون تجاوز مرحلة الخطر، خصوصاً أن ترامب كان الداعم الأبرز لإلغائه، انطلاقاً من قناعته بأن العقوبات لم تعد تخدم المصالح الأميركية، بل ساهمت في توسع نفوذ خصوم واشنطن.


بهذا المعنى، يمكن القول إن مرحلة ما بعد قيصر بدأت فعلياً، لأن المؤسسات المالية والأسواق تستجيب عادة للإشارات السياسية المسبقة، وتبني عليها توقعاتها، حتى قبل اكتمال الإجراءات القانونية. وبالتالي، فإن الاقتصاد السوري يقف اليوم على أعتاب تحوّل جديد يتيح عودة التدفقات المالية والاستثمارية وتعافي القطاعات الإنتاجية.


أولاً: لماذا يُعدّ إلغاء قيصر تحوّلاً اقتصادياً محورياً؟


أدّت العقوبات خلال الأعوام الماضية إلى تعطّل شبه كامل في العلاقات المالية الخارجية لسوريا، إذ تراجعت القدرة على الحصول على التمويل، وتعقّدت عمليات الاستيراد، وامتنعت المصارف الدولية عن التعامل مع أي نشاط اقتصادي سوري. أمّا إلغاء القانون، فيعيد فتح هذه القنوات تدريجياً، ويخفّض تقييم المخاطر، ويشجّع المؤسسات المصرفية والشركات على إعادة دراسة السوق السورية كفرصة استثمارية محتملة.


كما دفع قيصر جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي إلى “اقتصاد الظل”، حيث تنشط شبكات التهريب والاحتكار والوساطة غير النظامية. إن رفع العقوبات يتيح عودة النشاط الاقتصادي إلى بيئة أعمال منظمة، ويقوّي دور الدولة في التخطيط والإشراف، ويحدّ من الكلف غير المباشرة التي سببتها القيود السابقة.


ثانياً: التأثيرات المتوقعة على القطاعات الحيوية


1. قطاع الطاقة:

يُعدّ قطاع الطاقة المحرّك الأساسي للنمو. فإعادة تأهيل محطات التوليد، وتحديث شبكات النقل الكهربائية، وتنفيذ مشاريع الغاز والطاقة المتجددة، ستشكل رافعة حقيقية للناتج المحلي، وقد ترفع معدل النمو بين 2.5% و3% خلال السنوات الأولى. كما أنّ تعافي الطاقة يشكل الأساس لاستعادة النشاط الصناعي.


2. القطاع الصناعي:

مع استقرار الإمدادات وتراجع كلفة الاستيراد، يمكن للمصانع العودة تدريجياً إلى طاقتها التشغيلية، مما يعزز قدرة الصناعة السورية على خلق الوظائف ورفع مستوى الصادرات. هذا القطاع كان من أكثر المتأثرين بالعقوبات، وهو من الأكثر قدرة على الاستجابة السريعة بعد رفعها.


3. الزراعة واللوجستيات:

يساعد رفع القيود على توفير مستلزمات الإنتاج وتسهيل عمليات التصدير، كما يعزز تطوير شبكات التخزين والنقل. وتُعد الزراعة أول القطاعات التي تستفيد من الانفتاح التجاري، إذ تنعكس نتائجها سريعاً على الأمن الغذائي ودخل الريف.


4. الاتصالات والتكنولوجيا:

يفتح إلغاء العقوبات الباب أمام تحديث البنية الرقمية وإدخال الشركات التقنية العالمية. ويؤدي ذلك إلى تحسين الخدمات، وتوسيع فرص العمل، وتطوير التحول الرقمي في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص على حدّ سواء.


ثالثاً: انعكاسات الإلغاء على مؤشرات الاقتصاد الكلي


من المتوقع أن ينعكس الإلغاء على المؤشرات الاقتصادية على النحو الآتي:

 • تحسّن تدريجي في سعر الصرف نتيجة زيادة التحويلات الرسمية وارتفاع المعروض من العملات الأجنبية.

 • انخفاض كلفة الاستيراد بما يؤدي إلى تباطؤ التضخم وتحسّن القدرة الشرائية.

 • ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بمعدلات قد تصل إلى 4% خلال السنوات الثلاث الأولى، وربما 6% على المدى المتوسط مع تحسّن البنية التحتية.

 • توسّع سوق العمل عبر تشغيل المصانع، وزيادة مشاريع الإعمار، وتدفق الاستثمارات.


هذه التحولات تمثل انتقالاً من اقتصاد قائم على إدارة الأزمات إلى اقتصاد قادر على التخطيط والنمو.


رابعاً: البيئة الدولية والإقليمية المهيّأة لدعم سوريا


سيمثل الدعم الدولي ركناً أساسياً في مرحلة ما بعد قيصر. فالمؤسسات العالمية مثل DFC وEBRD وMIGA والبنك الدولي تتابع التطورات عن كثب، وهي مستعدة للدخول في مشاريع إعادة الإعمار فور اكتمال المسار القانوني لإلغاء العقوبات. كما أن دول المنطقة ترى في سوريا فرصة اقتصادية استراتيجية، خاصة في قطاعات الطاقة، الزراعة، النقل، والخدمات اللوجستية.


من الناحية السياسية، تبدو الإدارة الأميركية—بعد توقيع ترامب المتوقع—مستعدة لتبنّي نهج يقوم على الانفتاح الاقتصادي المنظّم، بما يخدم استقرار الإقليم ويحدّ من تمدد القوى المنافسة للولايات المتحدة.


خامساً: شروط الاستفادة القصوى من مرحلة ما بعد قيصر


لكي تستفيد سوريا من هذه اللحظة المفصلية، ينبغي العمل على عدة مسارات متوازية:

 • تحديث البيئة التشريعية لجذب الاستثمار وحماية رأس المال.

 • تعزيز الشفافية المالية ووضع آليات للحد من اقتصاد الظل.

 • إعادة هيكلة القطاع العام الإنتاجي لرفع الكفاءة وتقليل الهدر.

 • إطلاق خطة وطنية لإعادة الإعمار تركز على الطاقة والنقل والصناعة والتكنولوجيا.

 • تعزيز الثقة مع القطاع الخاص عبر تقديم حوافز ضريبية وتمويلية واضحة.


تدل التطورات السياسية في واشنطن على أن إلغاء قانون قيصر بات قريباً، وأن الاقتصاد السوري مقبل على مرحلة جديدة. ورغم أن الإلغاء ليس حلاً سحرياً، إلا أنه يشكل خطوة حاسمة تتيح الانتقال من اقتصاد مثقل بالعقوبات والاختناقات إلى اقتصاد أكثر قدرة على الإنتاج والانفتاح والتخطيط. إن النجاح في هذه المرحلة يتطلب رؤية اقتصادية واضحة، وسياسات مالية مدروسة، وشراكات دولية فعّالة، بحيث يتحول رفع العقوبات إلى مشروع نهضة اقتصادية شاملة يعيد بناء الدولة، ويؤسس لنمو مستدام، ويعيد لسوريا مكانتها في الاقتصاد الإقليمي والدولي.

كرم خليل

كاتب سياسي وريادي أعمال