كواز الذرة.. حينما كانت النار تُشعل بذكريات الريف وحنكة الأمهات

ميساء شيخ حسين
الاثنين, 21 يوليو - 2025
اكواز الذرة المجففة /ارشيف
اكواز الذرة المجففة /ارشيف

في بيوت الطين والحجر، وعلى أسطح البيوت المزروعة بالحب والصبر، كانت هناك عادة سورية راسخة لا تغيب عن ذاكرة أبناء الريف والمدن على حدّ سواء: تجفيف أكواز الذرة بعد أكل العرانيس.

ما إن ننتهي من تناول الذرة المسلوقة أو المشوية، حتى تبدأ المرحلة الثانية من رحلة "العرنوس"، إذ كانت الجدة أو الأم تجمع الأكواز الفارغة – تلك العيدان الخشبية التي حملت حبات الذرة – وتضعها في الشمس لتجف. لا مكان للهدر في قاموس تلك الأجيال. كانت كل تفصيلة في المطبخ أو الحقل تُقدّر، وكل ما تبقى من الطعام له غاية وفائدة.

السطوح التي كانت تكتب فصول الشتاء

في أواخر الصيف، تتحوّل سطوح البيوت إلى مشاهد مذهلة من التناغم بين الإنسان والطبيعة. كوزٌ هنا، وشرائح بندورة هناك، وورق عنب يتوسد الحصير، وتينٌ مجفف ينتظر قطفته الأخيرة. كانت كواز الذرة تُمدّ على الأسطح كما لو أنها تقيم حفلة وداع للشمس، لتستعد لأداء دورها الأهم: إشعال النار في الشتاء القارس.

كوز الدرة... Fire Starter السوري

حين يشتد البرد، وتلتحف العائلة حول مدفأة الحطب، تبدأ المعركة اليومية مع النار: كيف نشعلها؟ كيف نمنعها من الانطفاء؟ هنا يأتي كوز الذرة كـ "منقذ". تغميسة سريعة في القليل من المازوت (ملعقة صغيرة فقط) تجعله يتوهّج كجمرة، ويشتعل بثبات قد يدوم أكثر من نصف ساعة، وهو وقت كافٍ لإشعال كومة من الحطب دون عناء.

من كان يعرف أن هذا العود الصلب سيكون أكثر فاعلية من فحمات السوق و"فحمات الشعلة الجاهزة" التي نشتريها اليوم من رفوف السوبر ماركت؟! بل إنه كان منتجًا بيئيًا، بلا مواد كيميائية، وبتكلفة صفر.

من الريف إلى المدينة.. ذاكرة لا تُنسى

حتى في المدن، كانت بعض العائلات القادمة من الريف تحمل معها هذه العادة. وفي بعض البيوت الدمشقية، كانت الأكواز تُنشر على شرفات المنازل، ثم تُخزّن في أكياس خيش وتوضع في زاوية قريبة من المدفأة. كانت جزءًا من خطة التدفئة كما الحطب تمامًا.

الوعي البيئي قبل أن يصبح "موضة"

اللافت أن هذه العادة، وغيرها من عادات الجدات، لم تكن فقط بدافع التوفير، بل كانت صورة مبكرة للوعي البيئي. استغلال بقايا الطعام، إعادة التدوير المنزلي، احترام مواسم الطبيعة، والاعتماد على موارد محلية، كانت كلها جزءًا من ثقافة الحياة، لا شعارات تُطلق.

رسالة من الذاكرة

لمن لم يعرف هذه العادة من قبل، فإنها تروي حكاية شعب كان يصنع الدفء من البساطة، ويحوّل كل شيء حوله إلى نعمة. ولأبناء القرى الذين كبروا على رائحة كوز الذرة المشتعل، فإن إشعال النار ما زال يحمل في طياته طعم الذكريات، ودفء الأيدي التي كانت تجمع وتخزّن وتخبئ ما يكفي لشتاء طويل.